فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

لمّا تقضّى إبطال ما زعموه من نفي الإرسال والإنزال والوحي، النّاشيءُ عن مقالهم الباطل، إذ قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91]، وعقّب ذلك بإثبات ما لأجله جحدوا إرسال الرّسل وإنزال الوحي على بشر، وهو إثبات أنّ هذا الكتاب منزّل من الله، عُقّب بعد ذلك بإبطال ما اختلقه المشركون من الشّرائع الضّالة في أحوالهم الّتي شرعها لهم عَمْرو بن لُحَيّ من عبادة الأصنام، وزعمهم أنّهم شفعاءُ لهم عند الله، وما يستتبع ذلك من البحيرة، والسّائبة، وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح، وغير ذلك.
فهم ينفون الرّسالة تارة في حين أنّهم يزعمون أنّ الله أمرهم بأشياء فكيف بلَغهم ما أمرهم الله به في زعمهم، وهم قد قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91].
فلزمهم أنّهم قد كذَبوا على الله فيما زعموا أنّ الله أمرهم به لأنّهم عطّلوا طريق وصول مراد الله إلى خلقه وهو طريق الرّسالة فجاءوا بأعجب مقالة.
وذكر من استخفّوا بالقرآن فقال بعضهم: أنا أوحيَ إليّ، وقال بعضهم: أنا أقول مثلَ قول القرآن، فيكون المراد بقوله: {ومن أظلم ممَّن افترى على الله كذبًا} تسفيه عقائد أهل الشّرك والضّلالة منهم على اختلافها واضطرابها.
ويجوز أن يكون المراد مع ذلك تنزيه النّبيء صلى الله عليه وسلم عمّا رموه به من الكذب على الله حين قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] لأنّ الّذي يعلم أنّه لا ظلم أعظم من الافتراء على الله وادّعاءِ الوحي باطلًا لا يُقدم على ذلك، فيكون من ناحية قول هرقل لأبي سفيان «وسألتُك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكَرْتَ أنّ لا، فقد أعرِفُ أنّه لم يكن ليَذَر الكذب على النّاس ويكذب على الله».
والاستفهام إنكاري فهو في معنى النّفي، أي لا أحد أظلم من هؤلاء أصحاب هذه الصّلات.
ومساقه هنا مساق التّعريض بأنّهم الكاذبون إبطالًا لتكذيبهم إنزال الكتاب، وهو تكذيب دلّ عليه مفهوم قوله: {والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} [الأنعام: 92] لاقتضائه أنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون يكذّبون به؛ ومنهم الذّي قال: أوحي إليّ؛ ومنهم الّذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله؛ ومنهم من افترى على الله كذبًا فيما زعموا أنّ الله أمرهم بخصال جاهليتهم.
ومثل هذا التّعريض قوله تعالى في سورة [العقود: 60] {قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه} الآية عقب قوله: {يا أيّها الّذين آمنُوا لاَ تَتَّخذُوا الَّذين اتَّخذوا دِينكم هُزؤًا ولعبًا من الَّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء} [المائدة: 57] الآية.
وتقدّم القول في {ومَنْ أظلم} عند قوله تعالى: {ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [في سورة البقرة: 114].
وافتراء: الاختلاق، وتقدّم في قوله تعالى: {ولكن الّذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة [العقود: 103].
و{مَن} موصولة مراد به الجنس، أي كلّ من افترى أو قال، وليس المراد فردًا معيّنًا، فالّذين افتروا على الله كذبًا هم المشركون لأنهم حلّلوا وحرّموا بهواهم وزعموا أنّ الله أمرهم بذلك، وأثبتوا لله شفعاء عنده كذبًا.
و{أوْ قال أوحي إليّ} عطف على صلة {مَن}، أي كلّ من ادّعى النّبوءة كذبًا، ولم يزل الرّسل يحذّرون النّاس من الّذين يدّعون النّبوءة كذبًا كما قدّمته.
روي أنّ المقصود بهذا مسيلمة متنبّئ أهل اليمامة، قاله ابن عبّاس وقتادة وعكرمة.
وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادّعى النّبوءة قبل هجرة النّبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأنّ السّورة مكّية.
والصّواب أنّ مسيلمة لم يدع النّبوءة إلاّ بعد أن وفد على النّبيء صلى الله عليه وسلم في قومه بني حنيفة بالمدينة سنة تسع طامعًا في أن يجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ بعده فلمّا رجع خائبًا ادّعى النّبوءة في قومه.
وفي تفسير ابن عطيّة أنّ المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسودُ العَنْسِي المتنبّئ بصنعاء.
وهذا لم يقله غير ابن عطيّة.
وإنّما ذكرَ الطّبري الأسود تنظيرًا مع مسيلمة فإنّ الأسود العنْسي ما ادّعى النّبوءة إلاّ في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوجه أنّ المقصود العموم ولا يضرّه انحصار ذلك في فرد أو فردين في وقت مَّا وانطباق الآية عليه.
وأمّا {من قال سأنزل مثل ما أنزل الله}، فقال الواحدي في أسباب النّزول، عن ابن عبّاس وعكرمة: أنّها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان قد أسلم بمكّة، وكان يكتب الوحي للنّبيء صلى الله عليه وسلم ثمّ ارتدّ وقال: أنا أقول مثل ما أنزل الله، استهزاء، وهذا أيضًا لا ينثلج له الصّدر لأنّ عبد الله بن أبي سرح ارتدّ بعد الهجرة ولحق بمكّة وهذه السّورة مكّية.
وذكر القرطبي عن عكرمة، وابنُ عطيّة عن الزّهراوي والمهدوي أنّها: نزلت في النضر بن الحارث كان يقول: أنا أعارض القرآن.
وحفظوا له أقوالًا، وذلك على سبيل الاستهزاء.
وقد رووا أنّ أحدًا من المشركين قال: إنّما هو قول شاعر وإنّي سأنزل مثله؛ وكان هذا قد تكرّر من المشركين كما أشار إليه القرآن، فالوجه أنّ المراد بالموصول العموم ليشمل كلّ من صدر منه هذا القول ومن يتابعهم عليه في المستقبل.
وقولهم: {مثلَ ما أنزل الله إمّا أن يكونوا قالوا هذه العبارة سخرية كما قالوا يا أيّها الّذي نُزّلَ عليه الذّكْر إنّك لمجنون} [الحجر: 6]، وإمّا أن يكون حكاية من الله تعالى بالمعنى، أي قال سأنزل مثل هذا الكلام، فعبَّر الله عنه بقوله: {ما أنزل الله} كقوله: {وقولِهم إنَّا قتلْنا المسيحَ عيسى ابن مريم رسولَ الله} [النساء: 157]. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن أول الآية وهو قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال وقوله بعد ذلك: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون في غَمَرَاتِ الموت} كالتفصيل لذلك المجمل، والمراد بالظالمين الذين ذكرهم، وغمرات الموت جمع غمرة وهي شدة الموت، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، ومنه غمرة الماء، وغمرة الحرب، ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه.
وقال الزجاج: يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك.
وغمره الدين إذا كثر عليه هذا هو الأصل، ثم يقال للشدائد والمكاره: الغمرات، وجواب لو محذوف، أي لرأيت أمرًا عظيمًا، والملائكة باسطو أيديهم قال ابن عباس: ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم، كما يقال بسط إليه يده بالمكروه أخرجوا أنفسكم.
هاهنا محذوف، والتقدير: يقولون أخرجوا أنفسكم. اهـ.
قال الفخر:
في الآية سؤال: وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الكلام؟
فنقول: في تفسير هذه الكلمة وجوه:
الوجه الأول: ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات، والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم، ويقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام.
والوجه الثالث: أن قوله: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} أي أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك.
والوجه الرابع: أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه.
والوجه الخامس: أن قوله: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} ليس بأمر، بل هو وعيد وتقريع، كقول القائل: امض الآن لترى ما يحل بك.
قال المفسرون: إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج، لأنها تصير إلى أشد العذاب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» وذلك عند نزع الروح، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله عز وجل: {ولو ترى إذ الظالمون} الآية، جواب {لو} محذوف تقديره لرأيت عجبًا أو هولًا ونحو هذا وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله و{الظالمون} لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره وغير ذلك من أنواع الظلم الذي هو كفر والغمرات جمع غمرة وهي المصيبة المبهمة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء، ومنه قول الشاعر بشر بن أبي خازم: [الوافر]
وَلاَ يُنْجِي مِنَ الغَمَرَاتِ إلاّ ** بَراكاءُ القِتَالِ أوِ الْفرَارُ

{والملائكة} ملائكة قبض الروح، و{باسطو أيديهم} كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم: {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني} [المائدة: 28].
وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته، قال ابن عباس: يضربون وجوههم وأدبارهم، وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة، وقيل إن المراد بسط الأيدي في جهنم، والغمرات كذلك لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، وقوله: {أخرجوا أنفسكم} حكاية لما تقولة الملائكة، والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم، ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا فأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقًا في الدنيا، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح، قال الحسن: هذا التوبيخ على هذا الوجه هو في جهنم، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر والإهانة كما يقول الرجل لمن يقهره بنفسه على أمر ما أفعل كذا، لذلك الأمر الذي هو يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} أي شدائده وسكراته.
والغَمْرة الشدّة؛ وأصلها الشيء الذي يغمُر الأشياء فيُغطّيها.
ومنه غَمَرَه الماء.
ثم وُضعت في معنى الشدائد والمكاره.
ومنه غَمَرات الحرب.
قال الجوهري: والغَمْرة الشدة، والجمع غُمَر مثل نَوبة ونُوَب.
قال القُطَامِيّ يصف سفينة نوح عليه السلام:
وحَانَ لِتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَارُ ** وغَمَراتُ الموت شدائده

{والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ} ابتداء وخبر.
والأصل باسطون.
قيل: بالعذاب ومَطارق الحديد؛ عن الحسن والضحاك.
وقيل: لقبض أرواحهم؛ وفي التنزيل: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50] فجمعت هذه الآية القولين.
يقال: بسط إليه يده بالمكروه.
{أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم، وهو توبيخ.
وقيل: أخرجوها كرهًا؛ لأن روح المؤمن تَنْشَط للخروج للقاء ربه، وروح الكافر تُنْتَزع انتزاعا شديدًا، ويقال: أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب الله وَهَوانه؛ كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره.
وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة والحمد لله.
وقيل: هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه: لأذيقنّك العذاب ولأخرجنّ نفسك؛ وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها مَلَك الموت وأعوانه.
وقيل: يقال هذا للكفار وهم في النار.
والجواب محذوف لعظم الأمر؛ أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابًا عظيمًا. اهـ.